يورغن هابراماس و الخطاب السياسي النقدي

يورغن هابراماس من رواد الفلسفة و علم الاجتماع على المستوى العالمي و يمثل كذلك الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت النقدية و التي تعتبر الدفاع العقلاني عن قيم و انجازات عصر التنوير و تحرير الذات الادمية من العصبية القومية و التطرف و التعصب احد الاهداف الرئيسية للفلسفة الملتزمة .
تتنوع كتابات هابراماس بين الفلسفة و السوسيولوجيا و الايتيقا .بالإضافة الى مئات الابحاث و المقالات و الكتب اهمها '' ملامح فلسفية وسياسية '' '' الخطاب الفلسفي للحداثة '' اخلاقيات المناقشة '' الحق و الديمقراطية '' الاندماج الجمهوري '' ''الاخلاق و التواصل '' و '' نظرية العقل التواصلي ''

تأثر هابراماس بعدة فلاسفة و جعل منهم مرجعا و منطلقا له في مشروعه الفلسفي و يأتي في مقدمتهم السوسيولوجي الكبير و الغني عن التعريف ماكس فايبرالدي اهتم هابرماس أساسا بسوسيولوجيته ،انطلاقا من طرح وتحليل مسألة عقلانية و عقلنة العلم الحديث والمعاصر. فهذه العملية التاريخية والمعقدة والممتدة التي بدأت وتعمقت في الغرب وامتدت إلى دول ألعالم تحمل في طياتها عناصر الضعف والسلب وعناصر القوة والإيجاب : فهي من جهة وضعت الإنسان في مقام القدرة والسيطرة والكشف ( نزعت السحر عن العالم ) ومن جهة أخرى حولت الفرد إلى أسير وأداة لعقله نفسه. و من هنا جاءت نزعة التشاؤم والسلبية إزاء مسيرة الحضارة ألغربية كما تتراءى في سوسيولوجيا فيبر .
و كطرح بديل قام هابراماس بإعادة قراءة سوسيولوجيا فايبر لتجاوز تلك النزعة التشاؤمية انطلاقا من إبرازه لخاصية المعنى والقصد للفعل الإنساني كما يؤكدها فايبر ، فليس كل فعل إنساني هو نشاط جدير بالاهتمام السوسيولوجي باستثناء ما له معنى مرتبط بقصد الفاعل صريحا أو ضمنا. وبالرغم من وقوع هذا التحديد الفيبري للفعل الاجتماعي مقترنا بالمعنى والقصد في دائرة فلسفة الوعي ، كما يضيف هابراماس نوعا آخر من الفعل الاجتماعي أسماه الفعل التواصلي الذي لا يبحث عن مجرد النجاح الشخصي فقط ، بل تحقيق التفاهم عن طريق الحوار .
اضافة الى ماكس فايبر تأثر هابراماس بالسوسيولوجي الامريكي الكبير هيربرت ميد صاحب نظرية دور الاخر في تشكيل الانا الذي اخد عنه أن الذات تنشأ وتتطور مجتمعيا من خلال عملية التفاعل الاجتماعي ؛ إذ يبدأ الفرد بالتعرف على ذاته من خلال آراء الآخرين فيه ، فالفرد الذي يريد أن يقيم علاقة عملية مع ذاته يؤكد من تلقاء نفسه أنه ليس فقط كائنا مستقلا ، وإنما متفرد ، وأنه قادر على اتخاذ الموقف الذي يمكنه من تحقيق التوافق التذاوتي ، أضف إلى ذلك إمكانية تحقيق مثل هذا التأكيد الأخلاقي للذات يكون مضمونا من خلال علاقة الاعتراف المتبادل الذي تلتقي فيه الأنا مع الآخر في أفق القيم والغايات .
كما كان السوسيولوجي تالكوت بارسونز من اهم الموردين الفكريين لمشروع هابراماس الفلسفي وتجلى ذلك في فهمه لعلاقات العالم الاجتماعي على أنها متكونة من نظام وعالم و حياة ، ويجب أن ينظر إلى النظام على أنه ينبع جوهريا من عالم الحياة , بمعنى أن المجتمع هو نتاج للتفاعل الإنساني بين الذوات والعالم الخارجي على السواء .
اضافة الى دلك يعتبر كارل ماركس من المرجعيات الفلسفية المهمة في فكر هابرماس رغم تجاوزه له في بعض الاحيان وخاصة في كتابه ما بعد ماركس. ماركس الذي يرى ان العمل الاجتماعي ليس هو ما يمنح الإنسان إنسانيته فحسب ، ولكنه هو أيضا ما يخلق شروط إعادة إنتاج الواقع عبر إدراكه المعرفي و التأثير عليه , اي الشروط الترانسدتالية لموضوعات المعرفة والتجربة المؤطرة والمندرجة في سياق بناء تاريخي للإنسان والمجتمع . و يضيف هنا هابراماس اضافة الى القيم الاقتصادية و الاجتماعية قيما معيارية رمزية تخضع لنفس فعل الإنتاج والتبادل و التفاعل , وأخذ المجالين معا هو ما يشكل لب إعادة التأسيس الهابرماسي للمادية التاريخية في صيغتها الكلاسيكية .
 كما وجد هابرماس ضالته في التحديد الهيغلي للذات التي يعتبرها كمن يجد تعريف نفسه في الآخر , وهي بذلك اكتساب للمعنى في منطق تأملي ومتناظر. إن هذه العلاقة من الآخر إلى الذات ومن الذات إلى الآخر ( الاعتراف المتبادل) ليست تمثلا للما بين ذاتية , لكن طريقة للتنشئة الاجتماعية. فهذا الاعتراف ما بين الذوات ، يجد تحققه في جدلية السيد والعبد في ظاهريات الروح عند هيغل .
كما استقى هابراماس فكرة العالم المعيش من هوسرل رائد الفنومنلوجيا ، حيث يميز هوسرل بين نوعين من الحقائق ، وبين نوعين من العوالم. فهناك حقائق العالم المعيش ، وهناك أيضا حقائق العالم الموضوعي : فحقائق العالم المعيش حقائق تاريخية وذات علاقة بتجارب وخبرات مقرونة بسياقات ثقافية معينة. أما حقائق العلوم الموضوعية ، فهي كونية غير ثقافية ولا تتعلق بمحيط ثقافي معين ، ومسلماتها قابلة للتطبيق في كل مكان ؛ بمعنى أن فكرة العالم المعيش تعني عالم الوجود ، مثلما في حياة الإنسان يوميا في محيط اجتماعي مقرون بسياق اقتصادي وثقافي ؛ فهو عالم التجربة الآنية كما يعيشه الإنسان ، ويتعلق بالإنسان وببيئته الثقافية والجماعية .
و يرى هابراماس انه لتجاوز أزمات العالم المعاصر ونواقص الديمقراطية التمثيلية , لا بد من تأسيس ديمقراطية على أسس جماعية مثالية للتواصل ، خالية من أية هيمنة أو سيطرة. كما أنه يطرح مفهوم التشاور الذي يعتبره جوهريا في ديمقراطيته التشاورية , لأنه في التشاور يعطي للآخرين الحق في الكلام والنقد ورفع ادعاءات الصلاحية وتقديم اقتراحات جديدة بخصوص القضايا المطروحة للنقاش في الفضاء العمومي ، وفي ظل هذه الصيرورة الخطابية المؤسسة على النقاش ، يتشكل الرأي العام والإرادة السياسية للمواطنين في المجتمع الديمقراطي ، لأن الهدف الأسمى للديمقراطية التشاورية ليس الدفاع عن المصالح الشخصية لأعضاء الجماعة , وإنما هو الدفاع عن المصالح العامة. هذه الأخيرة كل واحد مطالب بالدفاع عنها ، انطلاقا من وجهة نظره الخاصة ، وذلك لإقناع المواطنين برأيه بالاعتماد على وسيلة المناقشة الحجاجية .
ختاما يعتبر هابراماس كبير الفلاسفة المعاصرين نظرا لغنى وتنوع إنتاجه من جهة ، ومن جهة أخرى مواكبته للأسئلة المعقدة للإنسان المعاصر و مشروعه الفلسفي الاجتماعي القائم على بناء مجتمع ديمقراطي حداثي قائم على أخلاقيات الحوار والمناقشة ، لا على العنف والصراع .
التالي
السابق
أنقر لإضافة تعليق

0 التعليقات :